طلال ابو غزالة

في أعماق كل عربي بذرةُ فكرةٍ قادرةٍ على التغيير الإيجابي. لكن هذه الفِكَر ستبقى مجرّد حبر على ورق عندما لا تجد من يحميها ويمنحها صوتاً وقيمة، وهذا شأن الملكية الفكرية، رعاية أغلى ما نملك: إبداعنا. ففي عالم اليوم، لم تعد الثروات تُقاس بحجم الأراضي أو بكمّية الموارد الطبيعية فحسب، بل أيضاً بقوة الفِكَر التي نحملها. والأرقام التي تصدرها المنظمة العالمية للملكية الفكرية سنوياً ليست مجرد إحصائيات، بل هي شهادة على هذا التحوّل العميق

أيّها السادة، في عام واحد يسجّل العالم ملايين براءات الاختراع، وعشرات الملايين من العلامات التجارية، ومئات آلاف من التصاميم الصناعية. وهذه الأرقام لغة جديدة تشي بأن محرّك الاقتصاد العالمي تغيّر، بل إنها محرّكٌ وقوده الخيال البشري، وقانونه حماية هذا الخيال.

عالم جديد تُبنى فيه الإمبراطوريات على أساس الابتكار، وتُصنع فيه القوة من ومضات الإلهام

إذن، نحن في عالم جديد تُبنى فيه الإمبراطوريات على أساس الابتكار، وتُصنع فيه القوة من ومضات الإلهام. وفي قلب هذا العالم المتغيّر تقف منطقتنا العربية عند مفترق طرق، فنحن نملك الثروة الحقيقية: شباب موهوب، وعقول نيّرة تضيء جامعاتنا ومجتمعاتنا الإبداعية. وبصفتي رئيسَ مجلس إدارةٍ لأكبر شركة ملكية فكرية في العالم، أقول إنه في كل مدينة عربية هناك مهندس يحلم بتطوير تطبيق يسهّل حياة الناس، وفنّان يبحث عن طريقة لحماية أعماله، ومصمّم يريد أن يرى منتجه يتنافس في الأسواق العالمية، لكنّنا نواجه تحدّياً كبيراً، فكثير من هذه الطاقات الخلّاقة لا تجد البيئة الحاضنة التي تحوّلها أفكارها أصولاً ذات قيمة

لذا، ليست حماية الملكية الفكرية فرعاً، بل أصل نعبر به من عالم الأحلام إلى واقع ملموس، فعندما يحصل مخترع على براءة فهذا مفتاح لتحويل فكرته مصنعاً ينتج، وبرنامجاً يخدم، وصادرات تعزّز اقتصادنا. وعندما تسجّل شركة علامتها التجارية فهي تبني هُويَّةً وثقةً تمكّنها من الوصول إلى أسواق عالمية، وكذلك حقوق المؤلف، فهي شريان الحياة الذي يغذّي ثقافتنا، ويضمن للمبدعين دخلاً كريماً يمكّنهم من مواصلة إثراء حياتنا بالفنّ والأدب

وأقول دائماً إن بناء مستقبل قائم على المعرفة يتطلّب منّا رؤيةً مشتركةً وخطّةَ عمل واضحة، من خلال جعل حماية الفِكَر أولويةً، من خلال تبسيط الإجراءات أمام المبدعين الشباب، وتوفير الدعم القانوني لهم. كما يجب أن نشجّع جامعاتنا على أن تكون مصانع للمعرفة ولتحويل الأبحاث براءات اختراع وشراكاتٍ حقيقيةً مع القطاع الخاص، لا مجرّد ناقل وملقّن. كما يجب أن نغيّر نظرة مؤسّساتنا المالية لترى في الأصول الفكرية ضماناً ائتمانياً جديراً بالثقة، قادراً على جذب الاستثمارات وتمويل الابتكار

ولكن خلف هذه الصورة العالمية، هناك من يحاول أن يترجم هذا الواقع عبر خطوات عملية تجعله جزءاً من منظومة الاقتصاد المعرفي. وهنا، لا يسعني إلا أن أعبّر عن إعجابي بتوجّه قطر الجاد نحو ترسيخ بيئة الابتكار وجذب الاستثمارات النوعية. فقد تابعت مطلع الشهر الماضي (سبتمبر)المؤتمر الدولي الذي استضافته الدوحة، حول دور الوسائل البديلة لتسوية المنازعات وحماية الملكية الفكرية والابتكار في تعزيز الاستثمار الأجنبي المباشر من أجل التنمية المستدامة. وكان بمثابة رسالة واضحة أن الاستثمار في المعرفة والابتكار لم يعد خياراً تكميلياً، بل ضرورة استراتيجية للدول الساعية إلى بناء اقتصاد متنوّع، ومستدام. كما أن انعقاد هذا المؤتمر في الدوحة ليس مجرّد حدث دبلوماسي، بل هو ترجمة عملية لرؤية قطر في بناء اقتصاد معرفي تنافسي يُعزّز مكانتها بيئةً استثماريةً جاذبة. إنه إيمان بأن حماية الحقوق الفكرية وتطوير القدرات الإبداعية ليسا مجرّد شعارات، بل أدوات حقيقية لصناعة المستقبل. وعندما تتبنّى دولةٌ مثل قطر هذا النهج، فإنها لا تبني مستقبلها فحسب، بل تقدّم نموذجاً ملهماً للمنطقة كلّها. والتعاون بين الدول العربية في هذا المجال ليس مجرّد خيار فقط، بل ضرورة استراتيجية تمكّننا من المنافسة عالمياً. فعندما نستثمر في قواعد بيانات متطوّرة، وفي تدريب قضاة متخصّصين، وفي بناء محاكم سريعةٍ للفصل في نزاعات الملكية الفكرية، فإننا نبني الثقة التي يحتاجها المستثمرون والمبدعون على حدّ سواء

بدأت الأمثلة الملهمة تظهر في عواصمنا العربية، حيث نجحت شركاتٌ ناشئة في حماية أفكارها والانطلاق نحو العالمية. وليست هذه النجاحات قصصاً فرديةً وحسب، بل هي دليل على أن الطريق ممكن إذا ما توافرت الإرادة والإيمان… إنها دعوة لنا جميعاً، حكومات ومؤسّسات وأفرادا، لنبني معاً بنيةً تحتيةً لاقتصاد المستقبل، اقتصاد تكون فيه الفكرة هي أثمن أصولنا، وحمايتها هي أعظم استثماراتنا

أيها السادة، إن الملكية الفكرية ليست ثانويةً، بل بنية تحتية اقتصادية لا تقلّ أهمية عن الطرق والموانئ والطاقة، ومن يستثمر في حماية فكرته اليوم، يبني مستقبل وظائف وصادرات وحلول لمشكلات تواجه البشرية جمعاء. فهل سنكون على قدر هذا التحدّي، ونكتب فصلاً جديداً في قصة منطقتنا عنوانه: “صنع في العالم العربي… بفخر وإبداع”؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *