كان آخر جيلٍ مرّ بتجربة التنوّع السياسي في العراق، عشية انهيار النظام السابق بالاحتلال الأميركي المباشر في إبريل 2003، قد تجاوز الخمسين من العمر، ويحتفظ بذاكرة عن مناخٍ سياسيٍّ ثوريٍّ، غير ديمقراطي بالمعنى الليبرالي الحديث، حين هيمن حزبا البعث والشيوعي على الفضاء العام والنقابات ومؤسّسات الدولة، مع حراكٍ غير مرخّصٍ لتياراتٍ إسلامية متنوّعة، كان أبرزها حزب الدعوة الإسلامية الشيعي، والحزب الإسلامي السُّنّي (الإخوان المسلمون). وسرعان ما أُقصي “الشيوعي” من مراكز النفوذ، ليهيمن “البعث” ابتداءً من منتصف السبعينيّات، لينجز جناح صدّام حسين في 16 يوليو 1979 انقلاباً داخلياً في الحزب، أنهى (وفقاً لأكثر القراءات موضوعية) ما تبقّى من التنوّع داخل قياداته، ليصبح الحزب الحاكم “صدّامياً” صرفاً.
فتحت أربعة أجيال من العراقيين على الأقلّ، ممّن تحمّسوا للفضاء السياسي الجديد بعد 2003، أعينها على واقعٍ جديد، ينظرون إليه من وحي الأحلام الفكرية لعقد السبعينيّات الغابر، وما كان يهيمن عليه من مواضعات الحرب الباردة، وهو واقعٌ هيمنت عليه رؤى الهُويَّات المقموعة والتيّارات السياسية المقصيّة. والأهم أنّه تشكّل وفق تصوّرات فاعلٍ سياسيٍّ أعلى رسم شكل النظام والمجتمع السياسي الجديد: رؤية المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، المحيطين بالرئيس جورج دبليو بوش، الذين كانوا في الأساس وراء مشروع غزو العراق.
اعتقد المحافظون الجدد أن نموذج ماك آرثر في اليابان يمكن تطبيقه في العراق: إسقاط نظامٍ شمولي بالقوة، ثمّ بناء مؤسّساتٍ ديمقراطية بإشرافٍ أميركي مباشر. كان الأمر برمّته مغامرةً غير مضمونة النتائج، تداخلت فيها رؤى سياسيةٌ قادمةٌ من الماضي، سواء في تصوّرات الأميركيين أو في ذهنيات النخب العراقية المأسورة بمواضعات سبعينيّات القرن الماضي، بينما على الأرض كانت التحدّيات الآنية أكثر إلحاحاً: إعادة تشغيل مؤسّسات الدولة، وتوفير الأمن والخدمات والطاقة، واستيعاب البطالة، وإشعار المواطنين بأنهم ممثَّلون ومتساوون في النظام الجديد.
وخلال 22 عاماً من عمر النظام الجديد، هيمنت التصوّرات الأيديولوجية على الفاعلين السياسيين، وصارت مادّة تشغيل “شرعية النظام”، والصلة بين مجتمع السياسة والمجتمع العام، بالتوازي مع تلبيةٍ متعثّرةٍ للمطالب المعيشية. ما زال جزءٌ كبيرٌ من العقل السياسي العراقي عالقاً في سبعينيّات القرن الماضي، ولم يستوعب بعدُ بروز أجيالٍ جديدة من الناشطين والمهتمّين بالشأن العام (ثلاثة أجيال من الناخبين)، الذين سيزيحون، عاجلاً أم آجلاً، الأجيال الأربعة السابقة الغارقة في تصوّرات تلك الحقبة. وينطبق هذا على مختلف الاتجاهات السياسية، إسلامية كانت أم علمانية، إذ ما زال معظمها يركّز في الصراع الأيديولوجي والفكري أكثر من بناء شرعيته عبر تلبية المطالب الأساسية للناخبين.
الجميع تقريباً، حتى أكثر الفاعلين سياسياً ونفوذاً وأموالاً، ينتقدون النظام، ويقرّون بوجود مشكلات بنيويّة عميقة، ولكنّنا لا نعثر على أيّ برامج واقعية للخروج من إخفاقات هذا النظام وإعادة نظر هيكلية شاملة تجاه فضاء سياسي أكثر فاعلية وحيّوية، لا تكتفي بالتنظير، وإنّما ببناء برامج عمل حقيقيّة من الأرض.
ويمكن ملاحظة ذلك في الحملات الانتخابية الراهنة، فمع أنّها تزخر بشعاراتٍ عن الخدمات والأمن وفرص العمل، إلا أنها شعاراتٌ فضفاضة تُطرح من دون آلياتٍ واقعية لتحقيقها. كما تُختزل الأزمة الاقتصادية غالباً في كيفية توزيع عائدات النفط، من دون مساءلة مصير هذه الثروة أو التفكير في بناء اقتصادٍ منتجٍ ومستدام. أمّا في الخطاب السياسي، فما زال الإسلامي الشيعي يخوّف ناخبيه بـ”العدو البعثي السُّنّي”، والإسلامي السُّنّي يقدّم نفسه بوصفه “سُنّياً معتدلاً” يخدم الهُويَّة، بينما العلماني والمدني يعدُ ناخبيه بإزاحة الإسلاميين. وهكذا يبقى معظم الفاعلين السياسيين أسرى عقليّة السبعينيّات واستقطاباتها، ولم يصلوا بعدُ إلى اللحظة العراقية الراهنة.
انتخابات العراق والسياسات الراهنة 