شركات تخفض العمالة بسبب الذكاء الاصطناعىالذكاء الصطناعى يخفض العمالة فى الشركات الكبري

 

 

زكى محفوظ

هل يمكن الاستغناء عن الذكاء الاصطناعي؟ لا. السؤال وجوابه لقطع الطريق على أي تساؤل عما إذا كان المقال يرمي إلى مناهضة هذه التقنية التي تتوغّل أكثر فأكثر في حياتنا وأجسادنا ونفوسنا. ومن خلال بعض المعلومات والأرقام الأكثر إجماعاً عليها في الشبكة، سنجد أن الذكاء الاصطناعي حيّ يتمدّد

كنا، كلما قدمت تقنية جديدة من التقنيات التي سبقته، نتلقفها متى استطعنا توفير كلفتها أو اقتنعنا بجدواها أو دُفعنا إلى استخدامها. كان الوقت معنا لنكتشف ونلبي حاجاتنا من تلك التقنيات. قدم الإنترنت، وكان مستحيلاً تفاديه لأنه انتصب أمام أعيننا عبر شاشة الكمبيوتر، فغطسنا في يمّه بلا تردد. مر وقت استَعجَلَنا فيه تطوّر الهواتف المحمولة على ترقية أجهزتنا لكي تسهّل علينا ميزاتُها التواصل والعمل بفاعلية أكبر. ثم استقر همّنا مدة محدودة في تلقي المحتوى وإنتاجه. وحتى ذلك الوقت كان من شأن التقنيات الحديثة أن تيسّر لنا آلياً إنجاز المهمات نفسها التي كنا ننفّذها يدوياً في السابق: الكتابة، الرسم، التلوين، التصميم، تأليف الموسيقى، توليف التسجيلات، توليف الأفلام، المحاسبة، التعاملات المالية، التراسل، التخابر… ولكل منها برنامج وأدوات وتطبيقات

قدوم الذكاء الاصطناعي يعلن مرحلة جديدة لاستخدام التكنولوجيا مختلفة تماماً عمّا سبقها. هذه المرة مع مشاعر وانفعالات. ذلك أنه “ند” لأدمغتنا، يتفوّق على كثيرين منّا بحاصل ذكاء يراوح بين 145 و200، بحسب كل تطبيق ووفقاً لغير مرجع، وهو لا يزال غرّاً. لذا، حريٌّ بنا أن نتراجع قليلاً أمام مشاهدَ تأثيراتُها جارفة لكي نتعرّف عليه قبل أن تغمرنا موجاته ويبدو أن لدينا وقتاً لفعل ذلك، لكوننا لا نزال نقف عند حافة شاطئه، على رغم بدء ورود أنبائه في التاريخ الغابر، إذ ظهرت نماذج عنه في “إلياذة” و”أوديسة” هوميروس، وتجلّت في أشكال روبوتات ذاتية الحركة والسلوك تفهم لغة البشر، صنعها الإله هيفايستوس، وأبرزها “الخادمات المذهّبات” التي تتمتّع بقوة هائلة لمعاونته في شؤونه، وتستطيع توقّع حاجاته من خلال ذكائها الاصطناعي. ومنذ 1920، بدأ العمل على إحياء الذكاء الاصطناعي بالبرمجة الحاسوبية، ثم برز جون ماكارثي، الملقّب بـ”أبي الذكاء الاصطناعي”، في 1955 وصاغ هذا المصطلح، ثم أرساه مادة دراسية لها منهاجها في 1956. وتوالت الاختراعات ذات الصلة بوظائف محددة، حتى قدِمت إلينا “سِيري” و”أليكسا” تباعاً في 2011 و2014. وفي 2018، حضر “تشات جي بي تي”. في البداية، رحنا نتسلّى بالمحادثة مع آلات مبرمجة، وأمطرناها بأسئلة رزينة تارةً “سيري كيف الطقس في أثينا؟” ورعناء تارة أخرى “أليكسا هل تأكلين الفلافل؟”. أما في الأحاديث المنطوقة مع “تشات جي بي تي”، فتدرّجت ردات الفعل على أجوبته من السخرية والهزء إلى الدهشة. فلنلقِ نظرة على بعض جوانب المنظر العام في سرّائه وضرّائه.

بداية تجربة السويد: التراجع عن الخطأ مهما كلّف الأمر

لعل ما يحصل في السويد منذ 2022 يعطينا فكرة عن العزم على الاستغناء، ولو إلى حين، عما يكون سائداً وجارفاً. في 2009، نجح البلد بحصر عملية التعليم في المدارس بالوسائل الإلكترونية، كومبيوترات وألواح ذكية. وبعد دراسات ومسوح هادفة في القطاع التربوي، منذ 2018 وعلى مدى أربع سنوات، وجدت وزارة التربية أنها استعجلت في الانتقال من الورقي إلى الرقمي في مجال التعليم

 

ومن نتائج البحوث التي حضّتها على التراجع رغم كلفته العالية (65 مليون دولار لشراء كتب وإطلاق عملية الرجعة في 2024 مع نفقات سنوية لتأمين الاستمرار في الردّة): تَدَنّي القدرة على التركيز والاستيعاب والفهم لدى التلاميذ، تراجع مهارات القراءة والكتابة بخط اليد، الإدمان على قضاء الوقت أمام الشاشات وتضرر العيون بفعل توهّجها… وغيرها. كل ذلك دعا السويد إلى الاستغناء عن الرقمي والعودة إلى القلم والورقة والكتاب

ولا تحمل هذه الردّة أي صفعة للتطور التكنولوجي، إنما فيها تثمين للسلطة التي تهتم بشؤون مواطنيها، صغارهم في الطليعة. فما تبحث عنه السويد حالياً هو إرساء توازن في عملية تبني نتاج التطورات العلمية والتكنولوجية، في مرحلة لاحقة. وتطرّقت تلك البحوث إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي التي أُبقيَ على استخدامها ضمن الكادر التربوي لأغراض متابعة تقدّم الطلاب في الدراسة وتقييم الطرق المناسبة لوضع المناهج وتعديلها. لكنْ، لكون تلك التطبيقات تسهّل عملية الغش، يوصى بعدم استخدامها لتنفيذ الواجبات المدرسية في المنازل، فما لم يتمكّن المدرّس من تحديد مؤلِّف الواجب، لا تعود مادته تصلح للتقييم (عن تقرير للوكالة الوطنية السويدية للتربية والتعليم). بالطبع، مسألة الاستعانة ببرامج الذكاء التوليدي في الامتحانات تبقى موضع جدل بين المؤسسات التعليمية في العالم. وثمة قيود وشروط لاستخدامها

من واقع الذكاء الاصطناعي

لا ضرورة لوصف كل المشاهد التي تضُمّنا جميعاً كوننا مستخدمي الذكاء الاصطناعي التوليدي وتطبيقاته، فلغالبيتنا تجارب معه ومغامرات مستمرة وأعمال أيضاً، بدءاً برؤية هيئاتنا بريشة ليوناردو دافينشي، مروراً باحتضان ذواتنا ونحن أطفال، ووصولاً إلى الاتكال على “تشات جي بي تي” بكل شاردة وواردة، من كتابة القصص والبحوث والقصائد، ورسم اللوحات وصنع فيديوهات لمغنين راحلين وسياسيين وتحريك صورنا القديمة من ألبوم العائلة، ومروراً بملاطفة الحبيبة بناء على مشورته، أو بالنميمة (بيننا وبينه) على الجيران، فضلاً عن تصاميم الأزياء والمساكن… فبدا لكل منا أنه (أي الذكاء الاصطناعي) قادر على إنجاز الكثير وفي اختصاصات مختلفة، بدرجة أعلى وتنوعٍ أكثر مما أتاحته لنا منصات التواصل للتعبير عن الذات

حالياً، تأتي في الطليعة، وكلها تُطل عبر شاشتنا، إعلانات تدريس تطبيقات ذكية خلال 28 يوماً، ليشرع من بعدها دارسها في تنفيذ أعماله. هذه الإعلانات إنما تستهدف رواد الأعمال ما فوق الخمسين من العمر وأصحاب المصالح والمحترفين ممن يحتاجون إلى ذكر الذكاء الاصطناعي في سِير أعمالهم، من دون الاضطرار إلى نيل شهادة جامعية. وثمة إعلان أكثر إغراءً يَتوقّع، بعد خمس سنوات من الآن، أن يصنع الذكاء الاصطناعي عدداً من الأثرياء من أصحاب الملايين أكبر بكثير مما صنعه الإنترنت خلال عقدين

لكن قبل الانغماس في هذا البزنس الجديد، تجدر الإشارة إلى أن نسبة المصالح الرقمية، قبل الذكاء الاصطناعي، التي تفشل بعد 120 يوماً من انطلاقتها، تراوح بين 80% و90%، والسوق الرقمية لا تزال تتوسّع على حساب المبتدئين. ولذا، تبدو تلك التكهّنات الواعدة بالثراء من قبيل الإغراءات ولن تصيب إلا عند تحققها، رغم أن الذكاء الاصطناعي قد يحسّن من أداء العمليات والتبادلات التجارية.

المشهد الأخير

يبقى مشهد أخير لافت حصل في مايو/ أيار الماضي مع قدوم الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الخليج برفقة 19 من الرؤساء التنفيذيين لشركات الذكاء الاصطناعي وشركات استثمارية مع مديرين تنفيذيين، أبرزهم جنسن هوانغ من “إنفيديا” وإيلون ماسك من “إكس إيه آي” وسام ألتمان من “أوبن إيه آي”، وترامب نفسه داعم “ستارغيت”. وسعوا و(يبدو أنهم) نجحوا في حصد مبالغ ضخمة لإنشاء بنى تحتية لصناعة الذكاء الاصطناعي ومراكز بيانات ومعسكرات تدريب في الولايات المتحدة والخليج، وتشييد أو ترميم مفاعلات نووية لتوفير الكهرباء المطلوبة لتشغيل كل تلك المنشآت النهِمة للطاقة ومياه التبريد

في ما يتعلّق بالطاقة، أشار تقرير مجلة إم آي تي، في 20 مايو 2025، إلى معايير لقياس استهلاك مراكز البيانات للطاقة والمياه، وبيّن أن العديد منها يستخدم ملايين الليترات يومياً في تبريد معدات الذكاء الاصطناعي، وهو هدر يؤثر بيئياً محلياً رغم كونه ضئيلاً نسبياً عالمياً. وذكرت الدراسة أن مراكز البيانات الأميركية استهلكت العام الماضي 200 تيراواط-ساعة، ما يكفي لتشغيل تايلاند سنة كاملة، ومن المتوقع أن يصل استهلاك الطاقة للذكاء الاصطناعي بحلول 2028 إلى نحو 300 تيراواط-ساعة سنوياً، أي أكثر من استهلاك مراكز البيانات الأخرى، ويكفي لتشغيل 22% من المنازل الأميركية سنوياً، مع انبعاثات تعادل قيادة سيارة نحو 480 بليون كيلومتر، أي أكثر من 1600 رحلة ذهاباً وإياباً بين الأرض والشمس. تبدو الأرقام خيالية فعلاً، لكنها تنمّ عن استهلاك هائل للطاقة في المستقبل القريب، وعن الأضرار البيئية التي ستنتج من التبريد، ما لم تتوصّل الشركات إلى تحسين فاعلية الأجهزة في الحد من فقد الطاقة وتوليد الحرارة

واستطراداً، هل تكترث الشركات للهدر؟ هل نبالي نحن بالهدر؟ هذا المشهد الأخير سياسي – اقتصادي بامتياز يحمل تباشير استعمار من نوع جديد. لكن لا توجّه في المقال للوقوع في مطبات نظرية المؤامرة، ولو أن الكلام يشير مباشرة إلى احتمال نشوء هيمنة تكنولوجية وسياسية تديرها احتكارات ومواقع نفوذ

وثمّة دليل قاطع على ذلك يتمثّل، من جهة، بتراجع شركات الذكاء الاصطناعي عن حظر استخدامه في المجال العسكري، وكانت القيادات قد طالبت بوضع معايير أخلاقية صارمة لذلك. ومن جهة ثانية، يسجَّل إقبال موظفين تنفيذيين يمثّلون تلك الشركات على التجنّد في الجيش الأميركي، للاضطلاع بمتابعة التطبيقات الذكية للأغراض العسكرية. وما حصل ويحصل في غزّة من إطلاق العنان لبرامج ذكية تحدد، بلا ضوابط ولا أخلاق، أهدافاً عسكرية، جلّها من المدنيين، مثلما يحصل في لبنان والسودان وأوكرانيا وباقي مناطق النزاع، يطرح أسئلة قانونية وأخلاقية ومعنوية خطيرة، ويجعلنا نتساءل عمن سيشكّل مصدر الأخلاقيات المطلوبة وعمن سيضبط تطبيقها

ثقافة الترند

في أثناء انتظار الموجة التالية من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بعد ركود بسبب نقص المواهب من أصحاب المهارات، والتكلفة العالية لنماذج التدريب، والعقبات التي تعترض ملاءمة عمل الذكاء الاصطناعي في المؤسسات، فلنلهُ قليلاً به ونعمل أيضاً، علماً أن لهونا وعملنا يساهمان في تدريبه ورفع حاصل ذكائه. أتاحت لنا منصات التواصل أن ندّعي أننا كتّاب، شعراء، مفكّرين، أذكياء، حكماء… وغالبيتنا أصيبت بالإحباط من عدم تحصيلها عدداً كبيراً من التفاعلات (الأباهيم المرفوعة والقلوب الحمر). ومن هذه الغالبية من يتخلى عن طموحه الأدبي، ومنهم من يستمر في المناطحة رغم اعترافه ضمناً بفشله؛ إنها نزعة إنسانية. ثم جاء “الترند” ليمنح المناطحين فرصاً جديدة لتحقيق آمالهم. ومع قدوم الذكاء الاصطناعي وتيسيره تنفيذ المحتوى على أنواعه بكبسة زر وبواسطة تطبيقات متاحة للهاوي والمحترف والجاهل، ستعاني النوعية والجودة أحكامَ القطعان التي تنقاد مع “الترند”

صحيح أن المحترِف سيستفيد إلى أقصى حد من الذكاء الاصطناعي ندّاً مساعداً له، لكن تخيّلوا حال النوعية والجودة لنتاج المحترِف لو أصاب سهم كوبيد نتاج الجاهل ووقعت القطعان في حبه!

أخيراً… هل كان العالم ليتطور ويتقدّم من دون الذكاء الاصطناعي؟

نعم، لكن ليس بسرعة

وماذا في ذلك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *