عبد الباسط الشاجع يكتب عن تركيا واوروباماهو الدور الذى تقوم به تركيا واوروبا فى مواجهة روسيا

في خضم التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي تشهدها القارة الأوروبية وتصاعد حدة الصراع غير المباشر مع موسكو، يتردد سؤال استراتيجي في أروقة بروكسل وعواصم القرار: هل بات الاتحاد الأوروبي بحاجة ماسة إلى تركيا

الإجابة لم تعد مسألة سياسية تقليدية، بل تحولت إلى ضرورة أمنية براغماتية تفرضها حقائق الميدان وتحديات المرحلة الراهنة. تجد أوروبا نفسها اليوم في مرحلة تُوصف بأنها الأصعب منذ الحرب العالمية الثانية، وهو تقييم أكدته رئيسة وزراء الدنمارك ميته فريدريكسن في قمة كوبنهاغن مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2025، مشيرة بوضوح إلى الحرب الهجينة الروسية التي تستهدف استقرار القارة

هذا الإدراك المتأخر لحجم التهديد الروسي كشف عن هشاشة البنية الدفاعية الأوروبية وعجزها عن تلبية احتياجاتها العسكرية بشكل فوري وفعال، وهو الفراغ الأمني الذي يفتح الباب واسعاً أمام الشريك التركي

تكمن حاجة أوروبا إلى تركيا في مجموعة من العوامل المتفردة، فقد حققت تركيا قفزات نوعية في مجال التصنيع الدفاعي، متجاوزة مرحلة الاعتماد الخارجي إلى مرحلة التصدير والتفوق النوعي. ويبرز هذا التفوق بشكل خاص في أنظمة الطائرات المسيّرة (UAVs)، مثل “بيرقدار”، التي أثبتت فعاليتها في مسارح الصراع الحديثة. هذه الأنظمة، القابلة للإنتاج والتسليم بسرعة، تمثل حلولاً سريعة لسد النقص الحاد في القدرات الجوية غير المأهولة لدى الجيوش الأوروبية

علاوة على ذلك، تمتلك تركيا ثاني أكبر جيش في حلف ناتو، ما يوفر لها عمقاً استراتيجياً، ويعزز دورها في حماية الجناح الجنوبي الشرقي للحلف. كما أن قربها الجغرافي من بؤر التوتر الساخنة، سواء في البحر الأسود أو الشرق الأوسط، يجعلها خط الدفاع الأول عن أوروبا، ولا يمكن لأي هيكل أمني أوروبي أن يكون فعالاً من دون دمج هذه القوة الهائلة والموقع الاستراتيجي المتميز لأنقرة

قرب تركيا الجغرافي من بؤر التوتر جعلها خط الدفاع الأول عن أوروبا، ولا يمكن لأي هيكل أمني أوروبي أن يكون فعالاً دون دمج أنقرة

كما لعبت تركيا دوراً محورياً في حرب أوكرانيا، حيث قدمت الدعم العسكري لكييف، وفي الوقت نفسه حافظت على قنوات اتصال مع موسكو، ما جعلها وسيطاً أساسياً في صفقات تبادل الأسرى واتفاقيات الحبوب. هذا التوازن منحها ثقلاً دبلوماسياً يمكن لأوروبا الاستفادة منه لإدارة الأزمات مع روسيا

في الآونة الأخيرة، بدأت تظهر إشارات واضحة على تغيير الخطاب الأوروبي تجاه تركيا، حيث بدأت التصريحات الرسمية تتسم بالثناء على الإنجازات التركية، خصوصاً على مستوى الصناعات الدفاعية. والأهم من ذلك أن هناك تفاهمات بين ألمانيا وتركيا للانضمام إلى برنامج الاتحاد الأوروبي لدعم الصناعات الدفاعية (EDF)، وهو ما يمثل اختراقاً كبيراً بعد سنوات من الإقصاء

هذا الانفتاح الأوروبي لم يعد مقتصراً على الشراء، بل امتد إلى التعاون في الإنتاج، حيث بدأت تركيا في اقتحام الصناعة الحربية الأوروبية، بما في ذلك تصنيع المسيّرات في إيطاليا، والمشاريع المشتركة الأخرى، مثل تطوير حاملة الطائرات لتعزيز حضورها في المتوسط. كما تطرح أوروبا فكرة نموذج عضوية جديد يتيح لتركيا الانضمام إلى المنظومة الأوروبية بشكل محدود، من دون حق التصويت أو الفيتو مؤقتاً، ما يعكس رغبتها في الاستفادة من القوة التركية بشكل هيكلي، حتى قبل العضوية الكاملة

تدرك أنقرة جيداً أسباب الاهتمام الأوروبي المتزايد بها، كما تدرك أن التوازنات الدولية تمنحها فرصاً لتكون في قلب المعادلات الإقليمية والدولية، إن أحسنت استغلالها. ويؤكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في تصريحات سابقة، أن أوروبا لم يعد أمامها خيار سوى قبول تركيا شريكاً في أي هيكل أمني جديد قد يحل محل مظلة حلف ناتو، في ظل تزايد الشكوك حول مستقبل الحلف. ويرى أن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى تركيا إذا أراد مواصلة دوره لاعباً عالمياً

ومع ذلك، لا تزال العلاقة التركية الأوروبية مثقلة بعدد من الملفات الشائكة، أبرزها الخلافات مع اليونان وقبرص، التي تمثل عوائق سياسية تقليدية. لكن أنقرة تتبنى سياسة حكيمة تقوم على التوازن؛ فهي لا تهرول نحو أوروبا رغم طلبها العضوية، بل تحافظ على علاقات متوازنة مع كل من الولايات المتحدة والدول الأوروبية وروسيا، ما يمنحها أوراق قوة تفاوضية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *